+ + الكاتب الكبير
توفيق الحكيم يسأل
والبابا يجيب .
كتب الكاتب الكبير توفيق الحكيم
في جريدة الأهرام هذا السؤال
قرأت فى دفتري عبارة افزعتنى , وسجلتهالأسال فيها حتى يطمئن قلبي .. عبارة فى الإصحاح الثاني عشر من أنجيل لوقا قال فيهاالسيد المسيح : " جئت لألقي ناراً على الأرض .. أتظنون أنى جئت لأعطى سلاماً علىالأرض , كلا أقول لكم بل انقساماً .. فكيف والمسيح ابن مريم كلمة من الله , جاءليلقى ناراً على الأرض ...
وقد أجاب معلم الأجيال
عميد الأدب فى أيامنا الأستاذ الكبيرتوفيق الحكيم
تحيةطيبة ,
ودعاء لكم بالصحة , من قلب يكن لكم
كل الحب . فأنا قارئ لكم ,
معجببكتاباتكم ,
احتفظ بكل كتبكم فى البطريركية وفى الدير ...
وقد قرأت مقالكم الذينشر فى الأهرام
يوم الاثنين 2/12/85 ,الذي قدمتم فيه أسئلة
حول بعض الآيات التي وردت
فى الإنجيل " لو 12 " .
وعرضتموها فى رقة زائدة وفى أسلوبكريم ,
يليقان بالأستاذ توفيق الحكيم .
وإذاأشكر ثقتكم , أرسل لكم إجابة حاولت اختصارها على قدر ما أستطيع . وأكون شكراً إنأمكن نشرها كاملة كما هي . لأن تساؤلكم فى مقالكم , أثار تساؤلات عند كثيرين , وهمينتظرون هذا الرد . وختاماً لكم كامل محبتي .
" أمضاء "
البابا شنودة الثالث
مقدمة :
حينما نتحدث عن آية من الكتاب . لانستطيع أن نفصلها عن روح الكتاب كله , لأننا قد لا نفهمها مستقلة عنه .
فلنضع أمامنا روح الإنجيل , ورسالةالمسيح التي ثبتت فى أذهان الناس . ثم نفهم تفسير الآية فى ظل المفهوم العام الراسخفى قلوبنا .
رسالة السيد المسيحهي رسالة حب وسلام : سلام مع الله , وسلام مع الناس : أحباء وأعداء . وسلام داخلنفوسنا بين الجسد والعقل والروح .
فىميلاد المسيح غنت الملائكة قائلة " المجد لله فى الأعالي , وعلى الأرض السلام , وفىالناس المسرة " " لو2: 14 " . وقد دعي السيد المسيح " رئيس السلام " " أش9: 6 " . وقد قال لنا " سلامي أترك لكم , سلامي أعطيكم .. لا تضطرب قلوبكم ولا تجزع" " يو14: 27 " وقال " أي بيت دخلتموه , فقولوا سلام لأهل هذا البيت " " لو10:6 " . وذكر السلام كأحد ثمار الروح فى القلب . فقيل " ثمر الروح : محبة فرح سلام " " غل5: 22 "وفى مقدمة عظة السيد المسيح
على الجبل " طوبي لصانعي السلام لأنهم أبناءالله يدعون " "مت5: 9 " .
كماورد فى الإنجيل أيضاً " أطلب إليكم .. أن تسلكوا كما يليق بالدعوة التي دعيتم لها , بكل تواضع القلب والوداعة وطول الأناة , محتملين بعضكم بعضاً بالمحبة , مسرعين إلىحفظ وحدانية الروح برباط السلام . ولكي تكونوا جسداً واحداً وروحاً واحداً " " أف4: 1- " ودعا السيد المسيح إلى السلام , حتى مع الأعداء والمقاومين , فقال " لاتقاوموا الشر . بل من لطمك على خدك الأيمن , فحول له الآخر أيضاً . ومن أراد أنيخاصمك ويأخذ ثوبك , فاترك له الرداء أيضاً . ومن سخرك ميلاً , فاذهب معه أثنين , ومن سألك فأعطه " " مت5: 39-42 " .
بل قالأكثر من هذا " أحبوا أعداءكم , باركوا لا عنيكم , أحسنوا إلى مبغضيكم , وصلوا لأجلالذين يسيئون إليكم ويطردونكم .. لأنه إن أحببتم الذين يحبونكم فأي أجر لكم .. وإنسلمتم على أخوتكم فقط , فأن فضل تصنعون " "مت5: 44-47 " .
ولست مستطيعاً أن أذكر كل ما ورد فىالإنجيل عن رسالة السلام فى تعليم السيد المسيح " إنما أكتفي بهذا الآن ’ وعلىأساسه نفهم الآيات التي هي موضع السؤال :
وكمقدمة ينبغي أن أقول إن الإنجيل يحوي الكثير من الرمز , ومن المجاز . ومن الاستعارات والكنايات , من الأساليب الأدبية المعروفة .
+ + +
جئت لألقى ناراً :
وهى قول السيد المسيح " جئت لألقى ناراًعلى الأرض . فماذا أريد لو أضطرمت " "لو12: 49 " .
1- إن النار ليست فى ذاتها شراً . والا ما كان الله قد خلقها . وليست بصدد الحديث عن منافع النار , ولا عما قيل عنها من كلام طيب فى الأدب العربي . وإنما أقول هنا إن النار لها معان رمزية كثيرة فى الكتاب المقدس :
2- فالنار ترمز إلى عمل الروح القدس فى قلب الإنسان .
وقدقال يوحنا المعمدان عن السيد المسيح " هو يعمدكم بالروح القدس ونار " " لو3: 16 " .
وقد حل الروح القدس على تلاميذ المسيحعلى هيئة ألسنة كأنها من نار .
أع3 : 2 .
وكان هذا إشارة إلى أن روح الله ألهبهمبالغيرة المقدسة للخدمة . وهذه الغيرة يشار إليها فى الكتاب المقدس بالنار .
وهى النار التي أعطت قوة لتطهير الأرضمن الوثنية وعبادة الأصنام . وهذه النار هي مصدر الحرارة الروحية . وقد طلب منا فىالإنجيل أن نكون " حارين فى الروح " " رو12: 11 " .
وقيل أيضا " لا تطفئوا الروح " "اتس5: 129 " .
3-والنار ترمز أيضاً فى الكتاب إلى المحبة :
وقيل فى ذلك " مياه كثيرة لا تستطيع أنتطفئ المحبة " " نش 8: 7" . وقيل أيضاً " لكثرة الإثم تبرد محبة الكثيرين " "مت 14 : 24 " .
4-والنار قد ترمز أيضاً إلى كلمة الله :
كما قيل فى الكتاب " أليست كلمتي هذهكنار , يقول الرب " " ار23: 29 " . وقد قال ارمياء النبي عن كلام الرب إليه " فكانفى قلبي كنار محروقة " " أر20: 9 " .
لذلك لم يستطع أن يصمت . على الرغم من الإيذاءالذي أصابه من اليهود حينما أنذرهم بالكلمة .
5-والنار فىالكتاب ترمز أحياناً إلى التطهير :
كماقيل عن إشيعاء النبي
" إن واحداً من الملائكة طهر شفتيه بجمرة من النار " أش 6 :6: 7 "
وإن كانت النار تحرق القش , إلا أنهاتنقي الذهب من الأدران ,
وتقوى الطوب الطين وتجعله صلباً .
وكانت تستخدم فى العلاجالطبي " بالكي " .
+ + +
فالذي كان يقصده السيد المسيح :إننيسألقى النار المقدسة
فى القلوب . فتطهرها , وتشعلها بالغيرة المقدسة
لبناء ملكوتالله , على الأرض ,
لذلك قال : ماذا أريد لو أضطرمت " .
هذه النار قابلتها نار أخري من أعداءالإيمان
تحاول أبادته . وهكذا اشتعلت الأرض ناراً ,
كانت نتيجتها إبادة الوثنية , بعد اضطهادات
تحملها المسيحيون .هناكإذن نار اشتعلت فى قلوب المؤمنين , ونار أخرى اشتعلت من حولهم . وكانت الأولى منالله , والثانية من أعدائه .
والسيدالمسيح نفسه تعرض لهذه النار المعادية , لذلك قال بعد هذه الآية مباشرة , يشير إلىآلامه المستقبلية , " ولى صبغة اصطبغاها . وكيف أنحصر حتى تكمل " " لو12: 50 " . وبنفس الأسلوب تحدث عن صبغة آلامه فى " مت20: 22 " , "مر10: 38 " .
+ + +
بقي أن نتحدث عن النقطةالتالية :
ما جئتلألقى سلاماً بل سيفاً :
وهىقول السيد المسيح بعد الإشارة إلى آلامه مباشرة . " أتظنون أنى جئت لألقي سلاماًعلى الأرض ؟
كلا , أقول لكم بل انقساماً " " لو12: 51 " .
إنه جاء ينشرعبادةالله فى العالم كله , بكل وثنيته
, ولذلك قال لتلاميذه " اذهبوا إلى العالم أجمع .
واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها " "مر16: 15 " .
تضاف إلى هذا : المبادئ الروحية الجديدة التي جاء بها المسيح . وهى تختلف عن سلوكيات وطقوس العبادات القديمة .
وكان أول من انقسم على المسيح , ثم علىتلاميذه : اليهود وقادتهم . ليس بسبب المسيح , إنما بسبب تمسك اليهود بملك أرضي , وبسبب تمسكهم الحرفي للكتاب . لدرجة أنهم تآمروا عليه ليقتلوه , لأنه شفى مريضاً فى سبت " مت 12: 49 " .
وتضايقمنه اليهود , لأنه كان يبشر الأمم الأخرى بالإيمان . وهو يردون أن يكونوا وحدهم شعبالله المختار . لذلك لما قال بولس الرسول أن السيد المسيح أرسله لهداية الأمم , صرخاليهود طالبين قتله " أع22: 21, 22 " . بل أن القديس بولس لما تحدث عن القيامة , حدث انشقاق وانقسام بين طائفتين من اليهود هما الفريسيون والصدوقيون , لأنالصدوقيين ما كانوا يؤمنون بالقيامة ولا بالروح " أع23: 6, 9 " .
وانقسم اليهود على المسيح , لأنهم كانوايريدون ملكاً أرضياً ينقدهم من حكم الرومان . أما هو فقال لهم " مملكتي ليست من هذاالعالم " يو18: 36 " .فلم يعجبهم حديثه عن ملكوت الله , ولا قوله " أعطوا ما لقيصرلقيصر .. " " مت22: 21 " .
وهكذاقام ضد المسيح كهنة اليهود وشيوخهم
والكتبة والفريسيون والصدوقيون .
+ + +
أكان يمكن للمسيح أن يمنع هذا الانقسام , بأن يجامل اليهود فى عقيدتهم عن الشعب المختار , ورفضهم لإيمان الأمم الأخرى . ورغبتهم فى الملك الأرضي , وحرفيتهم فى تفسير وصايا الله ؟
أم كان لابد أن ينشرالحق . و لا يبالى بالانقسام ؟
كذلكواجه السيد المسيح العبادات القديمة بكل تعددها وتعدد آلهتها : آلهة الرومانالكثيرة تحت قيادة جوبتر , والآلهة اليونانية الكثيرة تحت قيادة زيوس , والآلهةالمصرية الكثيرة تحت قيادة رع وأمون , وباقي العبادات وكذلك الفلسفات الوثنيةالمتعددة . وكان لابد من صراع بين عبادة الله والعبادات الأخرى .
أكان المسيح يترك رسالته لا ينادى بهاخوفاً من الانقسام , تاركاً الوثنيين فى عبادة الأصنام , لكي يحيا فى سلام معهم ؟! ألا يكون هذا سلاماً باطلاً ؟!
أم كانلابد أن ينادى لهم بالإيمان السليم . و لا خوف من الانقسام , لأنه ظاهرة طبيعيةفطبيعي أن ينقسم الكفر على الإيمان .
وطبيعي أن النور لا يتحد مع الظلام .
لم يكن الانقسام صادراً من السيد المسيح , بل كان صادراً من رفض الوثنية للإيمان الذي نادى به المسيح. وهكذا أنذر السيدالمسيح تلاميذه , بأن انقساماً لابد سيحدث . وأنهم فى حملهم لرسالته , لا يدعوهمإلى الرفاهية , بل إلى الصدام مع الانقسام .
لذلك قال لهم " فى العالم سيكون لكم ضيق " " يو16: 33 " " تأتى ساعة يظن فيها كل من يقتلكم أنه يقدم خدمة لله " " يو16: 2
" إن كان العالم يبغضكم , فاعلموا أنه قد أبغضنى قبلكم "
"يو15: 18-20 "
لقد وقف السيف ضد المسيحية . لم يكنمنها , وإنما عليها .
وعندمارفع بطرس سيفه ليدافع عن المسيح وقت القبض عليه , انتهره ومنعه قائلاً " اردد سيفكإلى غمده . لأن كل الذين يأخذون بالسيف , بالسيف يهلكون " " مت26: 52 " .
وكانت نتيجة السيف الذي تحمله المسيحيون , ونتيجة انقسام الوثنيين واليهود عليهم, مجموعة ضخمة من الشهداء .
ومع الصمود فى الإيمان , انتشر الإيمانوبادت الوثنية .
فى وقت من الأوقات .
ظنتلاميذ المسيح – كيهود – إن المسيح سيملك لذلك اشتهى بعضهم أن يجلس عن يمينه وعنشماله فى ملكه . فشرح لهم السيد أن حملهم لبشارته سوف لا يجلب لهم سلاماً ورفاهية , وإنما انقساما من أعداء الإيمان . بل سيحدث هذا حتى فى مجال الأسرة فى البيتالواحد : إذ قد يؤمن ابن بالله , فيثور عليه أبوه الوثني , ويجبره على العودة إلىوثنيته أو يقتله . وهكذا مع باقي أفراد الأسرة
التي تنقسم بسبب الإيمان .
فهل يرفض هؤلاء الإيمان , حرصاً على عدمالانقسام ؟
كلا . فالانقسام هنا ليس شراً , وإنماظاهرة طبيعية . وكل ديانة انتشرت على الأرض , واجهت مثل هذا الانقسام فى بادئ الأمر . إلى أن استقرت الأمور .
توفيق الحكيم يسأل
والبابا يجيب .
كتب الكاتب الكبير توفيق الحكيم
في جريدة الأهرام هذا السؤال
قرأت فى دفتري عبارة افزعتنى , وسجلتهالأسال فيها حتى يطمئن قلبي .. عبارة فى الإصحاح الثاني عشر من أنجيل لوقا قال فيهاالسيد المسيح : " جئت لألقي ناراً على الأرض .. أتظنون أنى جئت لأعطى سلاماً علىالأرض , كلا أقول لكم بل انقساماً .. فكيف والمسيح ابن مريم كلمة من الله , جاءليلقى ناراً على الأرض ...
وقد أجاب معلم الأجيال
عميد الأدب فى أيامنا الأستاذ الكبيرتوفيق الحكيم
تحيةطيبة ,
ودعاء لكم بالصحة , من قلب يكن لكم
كل الحب . فأنا قارئ لكم ,
معجببكتاباتكم ,
احتفظ بكل كتبكم فى البطريركية وفى الدير ...
وقد قرأت مقالكم الذينشر فى الأهرام
يوم الاثنين 2/12/85 ,الذي قدمتم فيه أسئلة
حول بعض الآيات التي وردت
فى الإنجيل " لو 12 " .
وعرضتموها فى رقة زائدة وفى أسلوبكريم ,
يليقان بالأستاذ توفيق الحكيم .
وإذاأشكر ثقتكم , أرسل لكم إجابة حاولت اختصارها على قدر ما أستطيع . وأكون شكراً إنأمكن نشرها كاملة كما هي . لأن تساؤلكم فى مقالكم , أثار تساؤلات عند كثيرين , وهمينتظرون هذا الرد . وختاماً لكم كامل محبتي .
" أمضاء "
البابا شنودة الثالث
مقدمة :
حينما نتحدث عن آية من الكتاب . لانستطيع أن نفصلها عن روح الكتاب كله , لأننا قد لا نفهمها مستقلة عنه .
فلنضع أمامنا روح الإنجيل , ورسالةالمسيح التي ثبتت فى أذهان الناس . ثم نفهم تفسير الآية فى ظل المفهوم العام الراسخفى قلوبنا .
رسالة السيد المسيحهي رسالة حب وسلام : سلام مع الله , وسلام مع الناس : أحباء وأعداء . وسلام داخلنفوسنا بين الجسد والعقل والروح .
فىميلاد المسيح غنت الملائكة قائلة " المجد لله فى الأعالي , وعلى الأرض السلام , وفىالناس المسرة " " لو2: 14 " . وقد دعي السيد المسيح " رئيس السلام " " أش9: 6 " . وقد قال لنا " سلامي أترك لكم , سلامي أعطيكم .. لا تضطرب قلوبكم ولا تجزع" " يو14: 27 " وقال " أي بيت دخلتموه , فقولوا سلام لأهل هذا البيت " " لو10:6 " . وذكر السلام كأحد ثمار الروح فى القلب . فقيل " ثمر الروح : محبة فرح سلام " " غل5: 22 "وفى مقدمة عظة السيد المسيح
على الجبل " طوبي لصانعي السلام لأنهم أبناءالله يدعون " "مت5: 9 " .
كماورد فى الإنجيل أيضاً " أطلب إليكم .. أن تسلكوا كما يليق بالدعوة التي دعيتم لها , بكل تواضع القلب والوداعة وطول الأناة , محتملين بعضكم بعضاً بالمحبة , مسرعين إلىحفظ وحدانية الروح برباط السلام . ولكي تكونوا جسداً واحداً وروحاً واحداً " " أف4: 1- " ودعا السيد المسيح إلى السلام , حتى مع الأعداء والمقاومين , فقال " لاتقاوموا الشر . بل من لطمك على خدك الأيمن , فحول له الآخر أيضاً . ومن أراد أنيخاصمك ويأخذ ثوبك , فاترك له الرداء أيضاً . ومن سخرك ميلاً , فاذهب معه أثنين , ومن سألك فأعطه " " مت5: 39-42 " .
بل قالأكثر من هذا " أحبوا أعداءكم , باركوا لا عنيكم , أحسنوا إلى مبغضيكم , وصلوا لأجلالذين يسيئون إليكم ويطردونكم .. لأنه إن أحببتم الذين يحبونكم فأي أجر لكم .. وإنسلمتم على أخوتكم فقط , فأن فضل تصنعون " "مت5: 44-47 " .
ولست مستطيعاً أن أذكر كل ما ورد فىالإنجيل عن رسالة السلام فى تعليم السيد المسيح " إنما أكتفي بهذا الآن ’ وعلىأساسه نفهم الآيات التي هي موضع السؤال :
وكمقدمة ينبغي أن أقول إن الإنجيل يحوي الكثير من الرمز , ومن المجاز . ومن الاستعارات والكنايات , من الأساليب الأدبية المعروفة .
+ + +
جئت لألقى ناراً :
وهى قول السيد المسيح " جئت لألقى ناراًعلى الأرض . فماذا أريد لو أضطرمت " "لو12: 49 " .
1- إن النار ليست فى ذاتها شراً . والا ما كان الله قد خلقها . وليست بصدد الحديث عن منافع النار , ولا عما قيل عنها من كلام طيب فى الأدب العربي . وإنما أقول هنا إن النار لها معان رمزية كثيرة فى الكتاب المقدس :
2- فالنار ترمز إلى عمل الروح القدس فى قلب الإنسان .
وقدقال يوحنا المعمدان عن السيد المسيح " هو يعمدكم بالروح القدس ونار " " لو3: 16 " .
وقد حل الروح القدس على تلاميذ المسيحعلى هيئة ألسنة كأنها من نار .
أع3 : 2 .
وكان هذا إشارة إلى أن روح الله ألهبهمبالغيرة المقدسة للخدمة . وهذه الغيرة يشار إليها فى الكتاب المقدس بالنار .
وهى النار التي أعطت قوة لتطهير الأرضمن الوثنية وعبادة الأصنام . وهذه النار هي مصدر الحرارة الروحية . وقد طلب منا فىالإنجيل أن نكون " حارين فى الروح " " رو12: 11 " .
وقيل أيضا " لا تطفئوا الروح " "اتس5: 129 " .
3-والنار ترمز أيضاً فى الكتاب إلى المحبة :
وقيل فى ذلك " مياه كثيرة لا تستطيع أنتطفئ المحبة " " نش 8: 7" . وقيل أيضاً " لكثرة الإثم تبرد محبة الكثيرين " "مت 14 : 24 " .
4-والنار قد ترمز أيضاً إلى كلمة الله :
كما قيل فى الكتاب " أليست كلمتي هذهكنار , يقول الرب " " ار23: 29 " . وقد قال ارمياء النبي عن كلام الرب إليه " فكانفى قلبي كنار محروقة " " أر20: 9 " .
لذلك لم يستطع أن يصمت . على الرغم من الإيذاءالذي أصابه من اليهود حينما أنذرهم بالكلمة .
5-والنار فىالكتاب ترمز أحياناً إلى التطهير :
كماقيل عن إشيعاء النبي
" إن واحداً من الملائكة طهر شفتيه بجمرة من النار " أش 6 :6: 7 "
وإن كانت النار تحرق القش , إلا أنهاتنقي الذهب من الأدران ,
وتقوى الطوب الطين وتجعله صلباً .
وكانت تستخدم فى العلاجالطبي " بالكي " .
+ + +
فالذي كان يقصده السيد المسيح :إننيسألقى النار المقدسة
فى القلوب . فتطهرها , وتشعلها بالغيرة المقدسة
لبناء ملكوتالله , على الأرض ,
لذلك قال : ماذا أريد لو أضطرمت " .
هذه النار قابلتها نار أخري من أعداءالإيمان
تحاول أبادته . وهكذا اشتعلت الأرض ناراً ,
كانت نتيجتها إبادة الوثنية , بعد اضطهادات
تحملها المسيحيون .هناكإذن نار اشتعلت فى قلوب المؤمنين , ونار أخرى اشتعلت من حولهم . وكانت الأولى منالله , والثانية من أعدائه .
والسيدالمسيح نفسه تعرض لهذه النار المعادية , لذلك قال بعد هذه الآية مباشرة , يشير إلىآلامه المستقبلية , " ولى صبغة اصطبغاها . وكيف أنحصر حتى تكمل " " لو12: 50 " . وبنفس الأسلوب تحدث عن صبغة آلامه فى " مت20: 22 " , "مر10: 38 " .
+ + +
بقي أن نتحدث عن النقطةالتالية :
ما جئتلألقى سلاماً بل سيفاً :
وهىقول السيد المسيح بعد الإشارة إلى آلامه مباشرة . " أتظنون أنى جئت لألقي سلاماًعلى الأرض ؟
كلا , أقول لكم بل انقساماً " " لو12: 51 " .
إنه جاء ينشرعبادةالله فى العالم كله , بكل وثنيته
, ولذلك قال لتلاميذه " اذهبوا إلى العالم أجمع .
واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها " "مر16: 15 " .
تضاف إلى هذا : المبادئ الروحية الجديدة التي جاء بها المسيح . وهى تختلف عن سلوكيات وطقوس العبادات القديمة .
وكان أول من انقسم على المسيح , ثم علىتلاميذه : اليهود وقادتهم . ليس بسبب المسيح , إنما بسبب تمسك اليهود بملك أرضي , وبسبب تمسكهم الحرفي للكتاب . لدرجة أنهم تآمروا عليه ليقتلوه , لأنه شفى مريضاً فى سبت " مت 12: 49 " .
وتضايقمنه اليهود , لأنه كان يبشر الأمم الأخرى بالإيمان . وهو يردون أن يكونوا وحدهم شعبالله المختار . لذلك لما قال بولس الرسول أن السيد المسيح أرسله لهداية الأمم , صرخاليهود طالبين قتله " أع22: 21, 22 " . بل أن القديس بولس لما تحدث عن القيامة , حدث انشقاق وانقسام بين طائفتين من اليهود هما الفريسيون والصدوقيون , لأنالصدوقيين ما كانوا يؤمنون بالقيامة ولا بالروح " أع23: 6, 9 " .
وانقسم اليهود على المسيح , لأنهم كانوايريدون ملكاً أرضياً ينقدهم من حكم الرومان . أما هو فقال لهم " مملكتي ليست من هذاالعالم " يو18: 36 " .فلم يعجبهم حديثه عن ملكوت الله , ولا قوله " أعطوا ما لقيصرلقيصر .. " " مت22: 21 " .
وهكذاقام ضد المسيح كهنة اليهود وشيوخهم
والكتبة والفريسيون والصدوقيون .
+ + +
أكان يمكن للمسيح أن يمنع هذا الانقسام , بأن يجامل اليهود فى عقيدتهم عن الشعب المختار , ورفضهم لإيمان الأمم الأخرى . ورغبتهم فى الملك الأرضي , وحرفيتهم فى تفسير وصايا الله ؟
أم كان لابد أن ينشرالحق . و لا يبالى بالانقسام ؟
كذلكواجه السيد المسيح العبادات القديمة بكل تعددها وتعدد آلهتها : آلهة الرومانالكثيرة تحت قيادة جوبتر , والآلهة اليونانية الكثيرة تحت قيادة زيوس , والآلهةالمصرية الكثيرة تحت قيادة رع وأمون , وباقي العبادات وكذلك الفلسفات الوثنيةالمتعددة . وكان لابد من صراع بين عبادة الله والعبادات الأخرى .
أكان المسيح يترك رسالته لا ينادى بهاخوفاً من الانقسام , تاركاً الوثنيين فى عبادة الأصنام , لكي يحيا فى سلام معهم ؟! ألا يكون هذا سلاماً باطلاً ؟!
أم كانلابد أن ينادى لهم بالإيمان السليم . و لا خوف من الانقسام , لأنه ظاهرة طبيعيةفطبيعي أن ينقسم الكفر على الإيمان .
وطبيعي أن النور لا يتحد مع الظلام .
لم يكن الانقسام صادراً من السيد المسيح , بل كان صادراً من رفض الوثنية للإيمان الذي نادى به المسيح. وهكذا أنذر السيدالمسيح تلاميذه , بأن انقساماً لابد سيحدث . وأنهم فى حملهم لرسالته , لا يدعوهمإلى الرفاهية , بل إلى الصدام مع الانقسام .
لذلك قال لهم " فى العالم سيكون لكم ضيق " " يو16: 33 " " تأتى ساعة يظن فيها كل من يقتلكم أنه يقدم خدمة لله " " يو16: 2
" إن كان العالم يبغضكم , فاعلموا أنه قد أبغضنى قبلكم "
"يو15: 18-20 "
لقد وقف السيف ضد المسيحية . لم يكنمنها , وإنما عليها .
وعندمارفع بطرس سيفه ليدافع عن المسيح وقت القبض عليه , انتهره ومنعه قائلاً " اردد سيفكإلى غمده . لأن كل الذين يأخذون بالسيف , بالسيف يهلكون " " مت26: 52 " .
وكانت نتيجة السيف الذي تحمله المسيحيون , ونتيجة انقسام الوثنيين واليهود عليهم, مجموعة ضخمة من الشهداء .
ومع الصمود فى الإيمان , انتشر الإيمانوبادت الوثنية .
فى وقت من الأوقات .
ظنتلاميذ المسيح – كيهود – إن المسيح سيملك لذلك اشتهى بعضهم أن يجلس عن يمينه وعنشماله فى ملكه . فشرح لهم السيد أن حملهم لبشارته سوف لا يجلب لهم سلاماً ورفاهية , وإنما انقساما من أعداء الإيمان . بل سيحدث هذا حتى فى مجال الأسرة فى البيتالواحد : إذ قد يؤمن ابن بالله , فيثور عليه أبوه الوثني , ويجبره على العودة إلىوثنيته أو يقتله . وهكذا مع باقي أفراد الأسرة
التي تنقسم بسبب الإيمان .
فهل يرفض هؤلاء الإيمان , حرصاً على عدمالانقسام ؟
كلا . فالانقسام هنا ليس شراً , وإنماظاهرة طبيعية . وكل ديانة انتشرت على الأرض , واجهت مثل هذا الانقسام فى بادئ الأمر . إلى أن استقرت الأمور .